النفقة الزوجية شرعا وقانونا وقضاء
بين طرقات محاكم الأسرة، تسمع المئات من القصص والحكايات والمآسى التى لا تتوقف بسبب «قضايا النفقة» التى تحولت إلى كابوس يطارد الأزواج. سيدات يصرخن من ظلم الأزواج.. ورجال يشكون من بطش الزوجات.. والسبب الخلافات الزوجية لتبدأ وصلة الـ«مرمطة» بين الزوجين.. الزوج يبدأ فى العناد ويرفض منح الزوجة حقوقها.. والزوجة أيضا تسعى للمحامين وتنفق كل ما تملك من أجل «تعذيب» زوجها الذى انفصلت عنه.. ولا تستمع إلى نصائح الأخير، وتتجه مباشرة إلى المحاكم.
وفقاً لإحصائية أعلن عنها المجلس القومى للمرأة، فإن نسبة دعاوى النفقة تزيد على 70% من إجمالى الدعاوى المقدمة أمام محاكم الأسرة على مستوى الجمهورية
أرقام صادمة.. وقائع مأساوية.. رجال يتحايلون على الدفع.. وسيدات يهددن: (يا الدفع يا الحبس)، بعد سنوات من العشرة فى عش الزوجية، تنتهى بـ(التنحار فى محاكم الأسرة)، بعد أن ترفع المدعية شعار (وديني لأبهدلك واجرجك في المحاكم) ويرفع المدعَى عليهم شعار: (مش دافع وأعلى ما فى خيلك اركبيه)، متهربين من سداد النفقة
ولم تزل قضايا النفقة الزوجية محل عناية القانونيين والفقهاء علي حد السواء ومثار خلاف بينهم، فلا تخلو كتب القانون وقوانين الأحوال الشخصية ومدونات الأسرة في الدول الحديثة من تناول قضايا النفقة الزوجية. ولهذه الأسباب كان موضوع النفقة الزوجية حقيقاً بالتحقيق والتأصيل، خصوصاً أنه ذو علاقة مباشرة باستقرار الأسرة التي هي اللبنة المؤسسة للمجتمع
وتعرف النفقة الزوجية بشكل مبسط وشامل بانها (هي كفاية الزوجة طعاماً وكسوة وسكنى وتوابعها بالمعروف) وهذا التعريف قريب من تعريف الحنابلة مع تعديل طفيف.
و(كفاية الزوجة): هذا ضابط لمقدار النفقة، فليس لها قدر محدد، بل تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والأسعار، والمهم تحقيق قدر الكفاية للزوجة.
(طعاماً وكسوة وسكنى) هذه الثلاثة أهم ما يصدق عليه اسم النفقة فلهذا نص عليها.
(وتوابعها بالمعروف) ليدخل فيه ما يتعارف الناس على أنه من الاحتياجات الأساسية للزوجة كالحاجيات المتممة لما سبق، وكالعلاج من الأمراض في عصرنا الحاضر على القول الراجح وكتوفير الخادم إذا كان مثلها يخدم وطلبته، وهو ما سنناقشه في موضعه بإذن الله.
والنفقة لها أسباب ثلاثة عند الفقهاء: الزوجية والقرابة والملك، وسوف يكون موضوعنا هذا خاصاً بالسبب الأول وهو النفقة الزوجية.
وقضايا النفقة والعلاج وما يتعلق بالصغير ليست مبلغاً مالياً تقدره المحكمة فقط، بل معاناة بسبب ظروف هؤلاء الأطفال والأمهات، وكذلك مع صعوبة إثبات ما يحصل عليه الآباء من رواتب بكل أمانة، لأن هناك رجالاً لا يكتبون رواتبهم الحقيقية، ومن هنا تحدث المشاكل، وفى هذه الحالة تكون رؤية القاضى وخبرته هى التى تحكم الأمور.
واتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته في الجملة وثبت هذا الوجوب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وفيما يأتي بيان ذلك:
أ – دليل النفقة من الكتاب:
1 – قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:233].
وجه الاستدلال: الآية نص في وجوب النفقة على الزوجة، وإنما نص على وجوب النفقة عليها حال الولادة ليدل على “أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها”أي في حال النفاس، أي أنها تستحق النفقة ولو لم تكن محلاً للاستمتاع بسبب عذر النفاس.
2 – قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى بيّن أنه فضّل الرجال على النساء وجعلهم أهل قيام عليهن بسبب “سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهن، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن”، فدل على مشروعية النفقة على الرجل لزوجته.
ب – دليل النفقة من السنة:
1 – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.
وجه الاستدلال: ظاهر، فقد نص على أن للزوجات على أزواجهن النفقة بالرزق والكسوة بالمعروف.
2 – عن عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”.
وجه الاستدلال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهند بأن تأخذ من مال زوجها مقدار النفقة الواجبة لها ولولدها، وهو ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهي فتيا تدل على استحقاق الزوجة النفقة من زوجها.
ج – دليل النفقة من الإجماع:
واتفق الفقهاء على وجوب نفقة الزوجة في مال زوجها ما لم تكن ممتنعة منه، وذلك أن تمكنه من نفسها وأن تكون مطيقة للوطء وغير ناشز، إلا إذا كان الامتناع لسبب مشروع فتكون معذورة حينئذ، وقد حكى الإمام ابن المنذر وغيره اتفاق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن. وأما نفقة الزوجة الغنية على زوجها الفقير فقد انفرد ابن حزم بأن الزوجة الغنية تكلف بالإنفاق على زوجها الفقير، وخالف بذلك قول جمهور الفقهاء، والصحيح أنه لا يجب عليها بل يستحب لها ذلك وتؤجر عليه، وعليه أن يتعفف عن مالها ما استطاع ولا تتشوف نفسه لشيء من مالها ما لم تطب نفسها بذلك، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34].
د – دليل النفقة من المعقول:
دل المعقول على استحقاق الزوجة النفقة في مال زوجها من وجهين:
أولهما: أن الأزواج قوامون على زوجاتهم، فهذا حق يقابله التزام بالإنفاق، وهو ما قرره ربنا تبارك وتعالى في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34]، “والقيم على غيره هو المتكفل بأمره” بما في ذلك النفقة وهو ما أكدته الآية بذكر إنفاق الرجال من أموالهم على أزواجهم.
ثانيهما: أن الزوجة محبوسة المنافع على زوجها، وممنوعة من التصرف لحقّه في الاستمتاع بها، فوجب لها مؤنتها ونفقتها، كما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير؛ لاحتباس نفوسهم على الجهاد ومسقطاتها
وقت تسليم النفقة:
ويختلف ذلك باختلاف نوع النفقة، وقد اتفق الفقهاء على أن الكسوة تقدم للزوجة بحسب وقتها من صيف أو شتاء كما سيأتي، واختلفوا في غير ذلك من النفقات على أقوال منها:
القول الأول: أن تسلم النفقة للزوجة يوميا، وهو قول الظاهرية، وبمثله قال الشافعية، وقد ذهب ابن حزم إلى أنه إن تعدى من أجل ذلك وأخر عنها الغداء , أو العشاء أدب على ذلك.
ونص الشافعية على أن نفقة الزوجة وخادمها تجب بطلوع الفجر كل يوم ; لأنها تستحقها يوما فيوما لكونها في مقابلة التمكين الحاصل في اليوم، فلها المطالبة بها عند طلوع الفجر، وقد نصوا على أنها تجب به وجوبا موسعا كالصلاة،أو أنه إن قدر وجب عليه التسليم لكن لا يحبس ولا يخاصم، وإذا أراد سفرا طويلا فلها مطالبته بنفقتها لمدة ذهابه ورجوعه كما لا يخرج إلى الحج حتى يترك لها هذا القدر, ولو أنه هيأ ذلك إلى نائبه ليدفعه إليها يوما بيوم كفى، ولا يكلف إعطاءه لها دفعة واحدة.
وقد استدل ابن حزم لهذا القول بما يلي:
- أن من قضى لها بأكثر من نفقة المياومة، فقد قضى بالظلم الذي لم يوجبه الله تعالى , وأي حد حد – من جمعة أو شهر أو سنة – كلف البرهان على ذلك من القرآن , أو من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يجده.
- أن ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم، أو ما روي أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يعطي أزواجه كل سنة ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير، فليس في هذا بيان أنه كان يدفعه إليهن مقدما.
القول الثاني: أن ذلك يقدر بحاله من يوم , أو جمعة، أو شهر, أو سنة، بحسب الزوج، وبحسب الوقت الذي ينال فيه أجرته، وهو قول المالكية، وقد أجاز ابن القاسم أن يفرض سنة، وقال سحنون: لا يفرض سنة ; لأن الأسواق تتحول، والأسعار تتغير.
القول الثالث: أن وقت تسليم النفقة مهما كان نوعها هو أول وقت الحاجة , فإن اتفقا على تأخيرها جاز ; لأن الحق لها في ذلك , فإذا رضيت بتأخيره جاز، وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر , أو أقل من ذلك أو أكثر , أو تأخيره , جاز ; لأن الحق لهما , لا يخرج عنهما , فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه، قال ابن قدامة:(وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه) ، لكن ما ذكرناه من الأقوال السابقة يشير إلى الخلاف في المسألة خاصة قول الظاهرية.
والأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع في الحالة العادية للعرف الذي تعارفوا عليه، أما في حال الخصومة في النفقة، فالعبرة بحاجتها، وبقدرة الزوج، وبنوع النفقة، وسنفصل كيفية ذلك في الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة.
فالقوت الأساسي تكون الحاجة إليه يومية، وهناك أقوات تحتمل التعجيل كمؤونة البيت، وهناك نفقات قد تكون سنوية كالكسوة.
وقول ابن حزم بالمياومة مع ذلك له ناحية مصلحية معتبرة، فقد نص على أنه لو تطوع الزوج بتعجيل النفقة قبل موعدها دون قضاء قاض، فتلف بغير عدوان منها، فإن عليه نفقتها ثانية , وكسوتها ثانية, لأنها لم تتعد , فلا شيء عليها وحقها باق قبله , إذ لم يعطه إياها بعد.
وهي ناحية مهمة، فالعبرة بتوفير حاجة الزوجة اليومية، أما أن تكلف بضمان التالف وحراسته، ثم عقوبتها بالحرمان من النفقة في حال التلف، فإن فيه مضرة بالغة عليها.